سطور من روايات لم تُكتَب

الخميس، فبراير ٠٩، ٢٠٠٦

صداقة

لم يمد يده ليصافحها في تلك الليلة، خشى أن تُقبِله في وجنتيه كما اعتادت قبل السفر في رحلات العمل وخشي ألا يطاوعه قلبه هذه المرة أيضاً على منعها. منذ أن أصبح شاباً ملتزماً يحاول أن ينظم ملامسته للنساء.
هي لم تفهم أبداً مسألة "الهداية" تلك. سخرت منه في البداية وظنت أن المسألة نزوة "دروشة" كما كانت تقول وهي تدعوه للبيرة التي كان يرفضها بأدب. كان يضحك قليلاً حين تقول له: "يا فقري". وعدته إنها ستحترم اختياراته في الحياة مهما كانت، وإنه سيبقى صديقها إلى الأبد.
كانت دائماً تقبله قبل أن تسافر، قليلة هي الأشياء التي لم تفعلها معه أو أمامه. حتى ملابسها كانت تخلعها أحياناً أمامه. دائماً ما كانت تسخر من خجله: "يا واد إنت مش في كلية طب؟ هتشوف إيه يعني يختلف عن إللي شفته؟"

كان سهل عليه أن يقطع علاقاته بباقي زميلاته القليلات وصديقاته الأقل، أما هي فلا، كانت روحه في المرآة، كانت أول وأهم صديق في حياته، كانت تضرب "العيال" حين يضربونه حين كان صغيراً ونحيفاً ضعيفاً جداً يغري بالاعتداء، حتى حين لا تنزل إلى الشارع كانت تراقبه من الشرفة وتهدد أي من يقترب منه، وكان الجميع يخشون أسنانها، كانا يتسابقان بالدراجات يوم تسبب في اصطدامها بشدة باطار ضخم لإحدى ماكينات الحفر الضخمة جداً، ارتد مقعد الدراجة بين ساقيها بعنف. شعرت بألم شديد وأخذت تبكي وهو يسألها عن مكان الألم: فترد :"في الحتة إللي تحت"، كانت في الثامنة، دخلت إلي الحمام ثم خرجت لتقول له إنها وجدت بقع دم أفزعتها. أخبرها أن تضع "الميكروكروم" وبالتأكيد سيطيب جرحها مثلما تطيب كل جروح الدراجات: تلك التي تملأ أيديهما وأرجلهما. هذا كان قبل أن تتحول من الخجل للبجاحة وتسمي الأعضاء بأسمائها في وجهه. اتفقا ألا يخبرا أحداً من الأهل حيث قد نهوهما ألف مرة عن التسابق بالدراجات. سأل عنها في الصباح فكان الألم قد زال والدم قد اختفي في قاع صندوق القمامة للأبد. أمهلتهما الحياة بضعة سنون ثم فهم كليهما ما حدث. ذكره مرة واحدة بعدها حين تحدثت عن عرض زواج تلقته من أحد زملاء العمل أضحكها واضطرها أن تنتهره. ذكرها بقصة الدم وإن عليها أن "تتصرف تصرفاً ما بشأنها". أفهمته إن زوج المستقبل الذي سيرضى به "ضرة" ستكون بقعة الدم أهين مشكلاته . ضحك من منطقها كما كان يضحك عادة. كانا وقتها بلا أصدقاء. رفيقين وحيدين. كانت مخاوفها الاجتماعية تمنعها من بناء صداقات متعددة، وكان خجله الشديد ينفر الرجال والنساء منه على حد سواء. وما بين خلافتهما الحادة مع عائلتيهما بقيت صداقتهما العلاقة المستقرة الوحيدة بعد علاقات حب في الخيال لم يفلح أبداً في مصارحة أي من صاحباتها بها من جانبه، وفشل من جانبها في أن تقبل انتظار أي رجل أن يصارحها بحبه. انتهى. ظل حضن كل منهما المكان الآمن الوحيد. كانت تقول له إنها لا تخشى أن يحبها في يوم من الأيام، لأن الرجل لا يستطيع أن يحب امرأة شاهدها وهي تحك جسدها بجنون حتى تدميه و أسندها إلى الحوض وهي تتقيأ لمدة أسبوع حين أصيبت بالالتهاب الكبدي من جراء الأكل الملوث.
كان هذا قبل أن يتعكر الصفو
في الشهور الأخيرة أصبح لا يجلس على "الأريكة" الواسعة في شقتها، إذ يعرف إنها عادة ما ستأتي للجلوس بجانبه، صار يتجنب الوقوف بجانبها، لم يعد يشد شعرها كلما أراد أن "يناكفها" ويطلق "شتائمها" تلاحقه في أنحاء المكان، وغالباً بعدها ما توسعه ضرباً عقاباً له عن إخراجها من تركيزها الشديد في حل الأحاجي الحسابية التي تدمنها، تشعر برعشة خفيفة لم تعتدها كلما مسته في معرض جلستهما مثلما تفعل منذ عشرين عاماً على الأقل، وعوضاً عن الاقتراب ... صار يبتعد كقط ثقيل الظل ينفر من اللمس
كانت معتادة على تقلبات مزاجه، ولكن ليس هذا، كان يكتئب ويبتهج ويقلق ويصاب بالهوس ويديها على كتفيه، على نفس تلك الأريكة. ثم بدأت تلمح التغيرات الأخرى.
وفي تلك الليلة شعرت إنه لن يصافحها، فلم تمد يدها هي أيضاً
لأول مرة تشعر بمساحة توتر بينهما فيها ما لا يمكن قوله
قالت له وهي تضع يديها في جيوبها: "طيب، أنا هأمشي بقى"
قال لها بلهجة تعرفها - لهجة مخاطبته للأغراب: تحبي أوصلك؟