ترشيد استخدام
كان جالساً في القطار في أكثر وضع يكرهه..
ظهره إلى المقعد ووجهه في عكس اتّجاه حركة القطار،
كأنّه يتحدّى حركة الكون!
يثبّت بصره على أشجار أمّ الشعور الباكية والتي يعشقها ويعشق السفر بالقطار بسببها،
وضعه يصيبه بالدوار لكنّه يأبى-في عناد غريب غير مبرّر-أن يغلق عَيْنيَه ولو للحظة.
يتذكّر جيّداً ما كانت تقوله له ڤيرچينيا وِلينكستون أثناء سفرهما بالقطار الأوروپيّ السريع بين فلورنسا في شمال إيطاليا وپاريس..
كانا قد أتّما لتوّهما الجلسة الختاميّة لمؤتمر نظّمه الاتّحاد الأوروپيّ حول تطوير محاصيل البطاطس،
وكان يتحدّث عن المحاضرة التي قدّمها بشأن ترشيد استخدام الأسمدة الكيماويّة،
فانتقلت ڤيرچينيا بتلقائيّة إلى الحديث عن داء المفاصل المزمن الذي تعاني منه.
قالت له: "تصوّر إنّني أحسب الآن بعناية عدد المرّات التي أفتح فيها مقابض البيبان، مفاصلنا وكلّ ما بجسدنا ليس مصمّماً للعمل بلا نهاية. لقد تركتُ وظيفتي أيضاً في معمل التحاليل المركزيّ بكنتاكي لأنّني كنت كلّ يوم أستخدم أصابعي بشكل مُهَدِّد!"
قال: "أنتم الأمريكان مهووسون بصحّتكم."
- غريب أن يخرج كلام كهذا من رجُل أكاديميّ مثلك- من كان يتحدّث البارحة عن موارد كوكبنا وكونها غير متجدّدة إلى ما لا نهاية؟ من كان يتحدّث عن الأنظمة البيئيّة.
- هذا لا يمنع أنّكم مهووسون بصحّتكم، تحسبون أعداد السعرات الحراريّة، وتضعون صور الأهرام الغذائيّة على ثلاجاتكم... أتدرين أنّ هذا القطار قد ينقلب بنا الآن أو يصطدم بالجبل؟
قال هذا وهو ينظر في إعجاب وخوف إلى المنظر الرائع من حولهم، حيث اخترق القطار في سرعة رهيبة ثلاثة أنفاق مدقوقق في مرتفعات إقليم لومبارديا فائقة الجمال.
- الأسوأ أنّه لن ينقلب بنا، وأنّنا سنعيش حتّى الثمانين نشكو آلام عظامنا ومفاصلنا، ترتجف أطرافنا، ونعجز عن التبوّل بأنفسنا... أليس هذا كابوساً؟
تجّهم فجأة التجّهم نفسه الذي أصابه بعد جملة ڤيرچينا الأخيرة...
يحملق من جديد في الترعة إذ يعرف أنّ بعد هذه النقطة ستنتقل من يمين القطار إلى يساره.
تذكّر كيف كان في طفولته يتأمّل ساعة الحائط لمدّة ساعات.. يشرُد مع عقرب ثوانيها الطويل ذي النهاية المدبّبة والحركة المرتجفة المضحكة..
كيف يمضي الزمان بهذا الشكل؟ كيف يمضي؟
اليوم اقترب عيد ميلاده الأربعون!
أربعون عاماً؟ يا الله!
أخرج آلته الحاسبة المثبتة بعناية في مفكرته الجلديّة التي هتّك الزمانُ غلافها:
لا يجسر أن يضرب في ستين أخرى ليصل إلى أكثر من المليار.. رقم يعجز حتّى عن تخيّله هو الذي يعرف معنى "الثانية" جيّداً.
كان قد استنتج عقب حواره الخاطف مع ڤيرچينيا، ذات السيقان التي تثير الشفقة من فرط ما بها من دوالٍ، أنّ مفهومه هو النقيض بالضبط من مفهومها. هي التي توفّر مفاصلها وتمنع عَيْنَيها عن رؤية ما لا يفيد، وتنام ثماني ساعات على الأقلّ يوميّاً...
مفهومه هو ألاّ يدَعْ شَيْئاً يفوته في الحياة، حتّى روائح أدخنة التلوّث في الشوارع يحبّها ليضيف إلى خبراته كلّ يوم.
أليس هذا غباءً؟
كتب في مفكّرته:
ينبغي علىّ من اليوم أن أتغيّر!
وحاول إعادة ظهر المقعد إلى الخلف لكي ينعم ببعض النوم والراحة،
لكنّ مزلاج المقعد كان مكسوراً...
ظهره إلى المقعد ووجهه في عكس اتّجاه حركة القطار،
كأنّه يتحدّى حركة الكون!
يثبّت بصره على أشجار أمّ الشعور الباكية والتي يعشقها ويعشق السفر بالقطار بسببها،
وضعه يصيبه بالدوار لكنّه يأبى-في عناد غريب غير مبرّر-أن يغلق عَيْنيَه ولو للحظة.
*****
يتذكّر جيّداً ما كانت تقوله له ڤيرچينيا وِلينكستون أثناء سفرهما بالقطار الأوروپيّ السريع بين فلورنسا في شمال إيطاليا وپاريس..
كانا قد أتّما لتوّهما الجلسة الختاميّة لمؤتمر نظّمه الاتّحاد الأوروپيّ حول تطوير محاصيل البطاطس،
وكان يتحدّث عن المحاضرة التي قدّمها بشأن ترشيد استخدام الأسمدة الكيماويّة،
فانتقلت ڤيرچينيا بتلقائيّة إلى الحديث عن داء المفاصل المزمن الذي تعاني منه.
قالت له: "تصوّر إنّني أحسب الآن بعناية عدد المرّات التي أفتح فيها مقابض البيبان، مفاصلنا وكلّ ما بجسدنا ليس مصمّماً للعمل بلا نهاية. لقد تركتُ وظيفتي أيضاً في معمل التحاليل المركزيّ بكنتاكي لأنّني كنت كلّ يوم أستخدم أصابعي بشكل مُهَدِّد!"
قال: "أنتم الأمريكان مهووسون بصحّتكم."
- غريب أن يخرج كلام كهذا من رجُل أكاديميّ مثلك- من كان يتحدّث البارحة عن موارد كوكبنا وكونها غير متجدّدة إلى ما لا نهاية؟ من كان يتحدّث عن الأنظمة البيئيّة.
- هذا لا يمنع أنّكم مهووسون بصحّتكم، تحسبون أعداد السعرات الحراريّة، وتضعون صور الأهرام الغذائيّة على ثلاجاتكم... أتدرين أنّ هذا القطار قد ينقلب بنا الآن أو يصطدم بالجبل؟
قال هذا وهو ينظر في إعجاب وخوف إلى المنظر الرائع من حولهم، حيث اخترق القطار في سرعة رهيبة ثلاثة أنفاق مدقوقق في مرتفعات إقليم لومبارديا فائقة الجمال.
- الأسوأ أنّه لن ينقلب بنا، وأنّنا سنعيش حتّى الثمانين نشكو آلام عظامنا ومفاصلنا، ترتجف أطرافنا، ونعجز عن التبوّل بأنفسنا... أليس هذا كابوساً؟
*****
تجّهم فجأة التجّهم نفسه الذي أصابه بعد جملة ڤيرچينا الأخيرة...
يحملق من جديد في الترعة إذ يعرف أنّ بعد هذه النقطة ستنتقل من يمين القطار إلى يساره.
تذكّر كيف كان في طفولته يتأمّل ساعة الحائط لمدّة ساعات.. يشرُد مع عقرب ثوانيها الطويل ذي النهاية المدبّبة والحركة المرتجفة المضحكة..
كيف يمضي الزمان بهذا الشكل؟ كيف يمضي؟
اليوم اقترب عيد ميلاده الأربعون!
أربعون عاماً؟ يا الله!
أخرج آلته الحاسبة المثبتة بعناية في مفكرته الجلديّة التي هتّك الزمانُ غلافها:
40x365.25x24
=
350640
x60
=
21038400
واحد وعشرون مليون دقيقة سيكون قد عاشها!!!=
350640
x60
=
21038400
لا يجسر أن يضرب في ستين أخرى ليصل إلى أكثر من المليار.. رقم يعجز حتّى عن تخيّله هو الذي يعرف معنى "الثانية" جيّداً.
*****
كان قد استنتج عقب حواره الخاطف مع ڤيرچينيا، ذات السيقان التي تثير الشفقة من فرط ما بها من دوالٍ، أنّ مفهومه هو النقيض بالضبط من مفهومها. هي التي توفّر مفاصلها وتمنع عَيْنَيها عن رؤية ما لا يفيد، وتنام ثماني ساعات على الأقلّ يوميّاً...
مفهومه هو ألاّ يدَعْ شَيْئاً يفوته في الحياة، حتّى روائح أدخنة التلوّث في الشوارع يحبّها ليضيف إلى خبراته كلّ يوم.
أليس هذا غباءً؟
*****
كتب في مفكّرته:
ينبغي علىّ من اليوم أن أتغيّر!
وحاول إعادة ظهر المقعد إلى الخلف لكي ينعم ببعض النوم والراحة،
لكنّ مزلاج المقعد كان مكسوراً...
2 Comments:
رائعه
By غير معرف, at ١١/٢٢/٢٠٠٦ ٠٣:٠٨:٠٠ ص
It's only when we feel that we "lack life" that we start to "choose to live" ... the most unfortunate surprise is that wehn we make our choice all the circumstances become against us!
Thanks for the thought R
Christa
By Christa, at ٢/١٨/٢٠٠٧ ١٢:٥٣:٠٠ م
إرسال تعليق
<< Home